الريف و المدينة !

ا تزال بعضا من كلمات المفكر علي عزت بيقوفيتش في كتابه "الاسلام بين الشرق و الغرب" حينما تحدث مسهبا عن الفرق الكبير و الجوهري بين سكان الريف "القرية " و الحضارة "المدينة" موضع مقارنة دائمة لي بين من أين أتيت "أبها" و عاصمة المملكة "الرياض" ! ..



شبهت أبها بتلك القرية التي هي صغيرة في الحجم ، إرتباطها العائلي والاجتماعي كبير ، هناك صلة دائمة بينها وبين الطبيعة و المساحة المتواجدة دوما بالتفكر بالخالق و هي التي تؤدي إلى ذكر و شكر و تسبيح وتهليل مما يقوي العلاقة الروحية مع الله .. ! 


و على النقيض من ذلك في قلب الصحراء هناك العاصمة التي أنشئت أبنيتها الاسمنتية من القاع حتى إشتدت وقامت شاهقة .. وبتصميم سكاني مستوحى من نظام سكان بروكلين أو نيويورك ذات التصميم الموحد و النمطي السائد !


 الملاحظ بأن سكان الرياض هم أقل من سكان أبها ذات الطبيعة الريفية مثلا من الناحية الاجتماعية و العائلية وذلك في مدينة عملية بحتة تبحث عن الانتاجية أو الرأسمالية ، ولا يكون هناك مساحة كافية كسكان الريف الذي يجدون مساحة ورابطة كبيرة مع سلسلة الجبال و الاخضر من اللون وعلاقتهم بالخالق و المخلوق أيضاً  ! 


مما يصيب سكان الرياض بالجفاف الاجتماعي و العاطفي هي رابطتهم المحكورة في الارتباط بزملاء الدراسة أو العمل أو الاصدقاء القدماء بمساحة قليلة و ضيقة جداً ، فإن لم يكن هناك تفاعل ما ، كانت "الاستراحة" موقع إجتماعاتهم وتفريغا لنشاطات دأبوا على تكرارها في حركة ذات طبيعة ملولة




وقد يكون ذلك نتاجا طبيعيا في البيئة العملية والتي يكون الأفضلية فيها والتنافس على أشده ، مما يلغي ثقافات أخرى كالمودة و المحبة وتقبل الخسارة ليحل محلها أخرى كمظاهر الكسب على شكل ترقية إجتماعية و إضافة في الراتب مثلا أو تسلق لمناصب أعلى في بيئة العمل ..! 



وهذا لم يكن وليد فرد واحد فقط ، إنما نشأت نتيجة إختلاط الفرد مع مجموعة من الثقافات الدخيلة عليه ، فأصبح عن قصد أو عن غير قصد ، متطبعا بصفات جديدة إيجابية أو سلبية تزيد من فرص نجاحه حتى و إن تسبب ذلك في ضرر غيره دون التفكر بالمصلحة العامة .. وذلك من ضمن إشتراطات المنافسة التي لم يحكرها قانون معين




ولا يلاحظ الفرد في مدينة تضج بالحركة الدؤوبة المتقدة  ، حركة الزمن السريعة ، فالاربعة و عشرون ساعة التي هي في يومه لا تكفيه ، فهو يريد أن يذهب لعمله و قد يجتهد فيه أو يمل منه ، ويريد أن يخرج منه وقد حقق أهدافه أو لم يحققها بأسرع وقت ممكن ، ويريد أن يعطي لشهواته جزءًا من النصيب ، إما بقيلولة أو بطعام يشتهيه ، ويكون باقي يومه له في ممارسة أشياء يستمتع بها من وجهة نظره كمشاهدة مباراة أو مقابلة زميل في إستراحة ما أو قهوة وسمر حتى الاخير من الليل لينام قليلا ويستيقظ في يومه التالي دون إنتاجية فعلية على أرض الواقع و ملموسة ترضيه و تشبع رغباته  ! 



مثلا الامور المرتبطة بالتقدير وحق الاخ للاخ والكرم ستجدها أقل تواجدا في عملية المقارنة الي ستبنى بين من أتى من الريف و من كان فردا في الحضارة القائمة على قدم و ساق


أول ما لاحظته حينما أقارن أيضا بين مدينتين هي كلمة "السلام عليكم" التي تقابل من البعض بعين مستهجنة مستنكرة ، فأنت لا تسلم إلا على من تعرف فقط ، إن قلتها لغيرك قابلك بنظرة متجهمة وكأنك تريد منه خدمة مقابل سلامك لا أجرا و إحياء لسنة مؤكدة !! 



في شئ لم أعهد له مثيل مطلقا ، رأيت هناك نفراً لا يصلي أبدا ، لكنه يصوم و يستشهد بأحاديث من السنة ، وأدلة من القران إن تم فتح موضوع بهذا الصدد ، فهو يؤمن بالله ، ولكنه في المقابل لا يؤدي الركن الثاني من الاسلام !! 



وإن عدنا لأصل الاسلام في فكرته العظيمة "المسجد" ستجده مختلفا تماما عن الانشاء والتخطيط المدني الكئيب ، والذي يضع كلا منا فيه بيتا إسمنتيا يحيطه ويغلق عليه بنفسه إما بسور شاهق أو غطاء يكتم فيه نفسه و أهل بيته !  ..



المسجد يأتي إليه الصغير و الكبير ، المعجز و القادر ، الاجنبي و العربي ، وتقام فيه إستضافة للصائمين ، وحلقات تحفيظ القران ، وإقامة صلاة الجمعة و العيدين ، و الاستسقاء و صلاتي الخسوف أو الكسوف في حركة روحانية إنسانية متجددة تزيد من الترابط بين الجميع ، ولكن ما إن يعود كل شخص لبيته المطمور بكومة الاحجار تلك حتى يغلق على نفسه .. فيبقى الاعجمي كما هو يأتي ليخدم و يسترزق ليعود كما كان لم يؤثر فيه مجتمع و لم يضيف إليه شئ



 ربما لرحلات في البر الكبير والنفود العامر شحنة إيجابية لازمة لمن هو منتسب لبيئة عملية كهذه من فترة لاخرى حتى تعيد فيه الحياة الروحية و تجددها من كآبة المدينة ونمطيتها المكررة



وهذا ليس قياسا فقط بالرياض ، ولكنه إستشهاد قابل للقياس مع مدينة متحضرة و آخذه في الاتساع شيئا فشيئا بعد أن تستقطب الافراد من الخارج أو من المدن الصغيرة في دولة مترامية الاطراف !  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا كل شخص منا عليه أن يتعلم (علم البيانات) ليحظى بوظيفة مضمونة في المستقبل!

إهتمام مشترك !

تقرير السفر والدليل الكامل لدولة تايلاند مايو 2022

كتب السيرة الذاتية الرياضية … حكايات في عشق الساحرة المستديرة

أخطائي الثلاث مع الصيام المتقطع؟ وعن كيفية حلها!

كيفَ تعيشُ لعمرٍ أطولَ؟ تسعةُ أسبابٍ غيرِ متوقعةٍ تكشفُ لكَ المجهولَ!