ظاهرة العنف، هل هو حادث عابر أم حدث متكرر؟ [العنف والإنسان” ليورج بابروفسكي] !

حين أدلف باب المكتبة أو أن أقوم بزيارة إحدى دور النشر التي تتواجد في معارض الكتاب فأنا أكون بالعادة قد اخترت الكتاب قبل أن أهم بشرائه، فقط يكون شغلي الشاغل توفر الكتاب من عدمه. ومن الأمور القليلة النادرة هي جذب عنوان الكتاب أو غلافه الخارجي لي.

هذه المرة عند زيارتي للمكتبة كانت تحملني عواطف وأفكار جياشة نُسجت بالحزن والألم بعد انتهائي من قراءة كتاب “امرأة في برلين” ورواية “ساعة الصفر” ومن تجاربٍ كثيرة سابقة وأفكار جاثمة على صدري بعد قراءاتٍ في بحورٍ مختلفة تحمل كثيرًا من الأسئلة التي تتشكّل عن ماهية العنف ونشأته وأبعاده على الإنسان بالذات.

عنوان الكتاب الذي اختارني رغمًا عني ووصف الكتاب في غلافه الخارجي حملاني على وضعه في سلة المشتريات دون أدنى تردد  .. هو “العنف والإنسان” ليورج بابروفسكي.

الكاتب الذي نقل المشاهد من حروب ستالين وهتلر والمجازر ومعسكرات الاعتقال والسجون والتهجير والمحارق ومشاهد القتل الجماعي التي تتكرر مع كل حقبةٍ  زمنية ومع كل حاكمٍ مجنون.


يزعم الكاتب بأن احتياجات الإنسان في الحياة تنحصر في أمورٍ أربعة هي “المأكل والمشرب والجنس والعنف”! ويبرر تواجد العنف في القائمة بأنها قرينة مع الإنسان منذ خليقته، فهو دائم الحذر ولا يستطيع تأمين نفسه ولا غيره، لتجده دائم التسلّح والرغبة في الانقضاض أو الفرار عند الإحساس بلحظةٍ غير مريحة أو ليست محبّبة في نفسه لتقوده نحو الجنون والارتياب المرتبطة بظاهرة “العنف”

أحد الاسئلة التي طرحها: هل التحضّر هو ما سيقود إلى السلام وخلو العالم من العنف؟

يجيب الكاتب بأن الحضارة والتقدم التقني والعلمي فيها هي ما يقود العالم نحو أن يكون أكثر جنونًا وارتيابًا بل وعنفًا!

أي أن حمامات الغاز لم يُعرف لها أي دور في عهد هتلر لولا التقدم الحضاري العلمي الذي ساهم في تطبيق هذه الأفكار على اليهود، وهو ما أمكن للسكان البيض في القارة الأمريكية من تطوير الفيروسات والبكتريا التي استخدمت لاحقًا وسائل لإبادة الهنود الحُمر برمي المِلاءات المُعدية على أولئك السكان من القارة الأمريكية ليتفشّى فيهم المرض تفشّي النار في الهشيم.

وهو أيضًا ما جعل القنابل النووية وتطوراتها صناعة التقدم والحضارة التي تزيل أمة ما في لحظةٍ واحدة وبضغطة زرٍ واحد دون أن يرمش المعتدي برمشة عين أو أن يوقفهم تأنيب ضمير.
يشير الكاتب بأنه يمكن تلافي ظاهرة العنف أو التقليل من حدته بزيادة الأُطر الاجتماعية والاقتصادية بين الدول وجعلها قرينة التأمين والسلام، فليس هناك أحد يحبّذ فكرة العنف على الدوام، لأن العنف بحد ذاته مصدر مؤرق لدى كل من الجلاد والضحية، فالجلاد يملؤه هاجس التصفية فقط دون قيادة بوصلة الحياة المدنية نحو حياةٍ أكثر رفاهية واستقرار، والضحية يريد أن يتشبّث بالحياة في كل لحظة وليس هناك من ملجأ غير الاعتراف بسلطة تؤمن له سبل ذلك الأمان.

تستطيع السلطة الحد من العنف أيضًا بزيادة الأُطر التنظيمية والقوانين التي من شأنها زيادة فرص التأمين على الحياة من ثم السلام، ومن يستطيع تحجيم كل هذا العنف هو من بيده أيضًا قرار العنف برفع رايته عاليًا والتهديد به في حالة العصيان والشذوذ، إذن هو وسيلة تهديد وتأمين في ذات الوقت من قبل رجالات السلطة.

نعود للعنف مرةً أخرى في وجهها الهيكلي، عند وجود الهيكلة التنظيمية الفرد لا يمكنه أن يخل بأحد الأوامر، فهو المطيع المحاسب على الدوام، وهذا يعني بأن سلسلة الأوامر التي تأتي من الرُتب العليا لا يمكن إلا الإذعان لها، فحينما يأمر القائد الأعلى بإقامة مجزرةٍ جديدة على الرغم من أنه لا يحب منظر العنف أو حمامات الدم هو يأمر دون أن يكون مجبرًا على رؤية أوامره واقعًا.

وهكذا يكون قائد الطائرة أو حامل السلاح الذي يرمي القنابل أو وابل الرصاص كل ما عليه أن يكون في الوقت والمكان المناسبين من ثم هو سيطير على وجه السرعة نحو مكانٍ آخر دون الحاجة لرؤية أي رادع مثل صرخات الضحايا أو عويلهم. فتكون نتيجة الهيكلة لهذه الطاعة العمياء للفرد من الرئيس على المرؤوسين من دون الشعور بالذنب من ثم التراجع، ومن يفكر حتى في العصيان يكون قد حكم على نفسه بالموت حتمًا بعد أن يجر على نفسه عباءة العار والخيبة بانسحابه عن المجموعة هذا إن تجرأ على فعل ذلك علنًا من الأساس.

السلطة والعنف وجهان لعملةٍ واحدة، لأن كل ما يطلبه العامة من الناس الأمان التي تكفله لهم السلطة والتي تتوعد كل خارج عن النظام بالتهديد والتعنيف، وهو ما يجعل استمراريتها لا محالة منها، لأن الأفراد يتهربون دومًا من لعب دور الرؤساء في التكفل بالأمور الصعبة والتي من ضمنها “السلام” وحفظ الأمن والتشديد على ذلك إعلاميًا وذهنيًا بشكلٍ مباشر وغير مباشر نحو الأفراد.

الكتاب الذي يقع في 233 صفحة سيضيف لديك الكثير من الآراء التي يمكن إنزالها على أرض الواقع بوضع المقارنات واستخراج الاستنباطات من أحداثٍ قديمة ما زالت تتكرر في صورٍ مختلفةٍ دائمة.

ولا أنسى أن أشكر المترجمة د.عُلا عادل على هذه الترجمة البديعة والرائعة، وكيف أنك بمجرد قراءتك هذا الكتاب تدرك بعظمة هذا الفن “فن الترجمة” الذي نقلته الدكتورة علا نحو منظورٍ آخر بجعل أفكار الكاتب الألماني من بنات العروبة والعربية الفصحى، فشكرًا جزيلًا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا كل شخص منا عليه أن يتعلم (علم البيانات) ليحظى بوظيفة مضمونة في المستقبل!

إهتمام مشترك !

تقرير السفر والدليل الكامل لدولة تايلاند مايو 2022

كتب السيرة الذاتية الرياضية … حكايات في عشق الساحرة المستديرة

أخطائي الثلاث مع الصيام المتقطع؟ وعن كيفية حلها!

كيفَ تعيشُ لعمرٍ أطولَ؟ تسعةُ أسبابٍ غيرِ متوقعةٍ تكشفُ لكَ المجهولَ!