كيفَ تكونُ حكايةُ كلِّ مغتربٍ عن أهلِه اليومَ ؟!

        غريبٌ أمرُ هذا العالمِ، هذا العالمُ الذي أصبحَ متشابها جدا لأبعدِ درجةٍ تقومُ بتصوُّرِها في ذهنِك... 

        ابنُ الصحراءِ أو البدويُّ الذي كانَ في يومٍ من الأيامِ شخصٌ طارئٌ على المدينةِ حالَ زيارتِه لها، يصبحُ اليومَ أحدَ أفرادِها الممزوجين داخلَها مزجاً تاما، لا يمكنُك أن تفرقَ بينَه وبينَ ابنِ المدينةِ الأوَّلِ الذي وُلدَ فيها وترعرعَ بينَ جُنُباتِها! 

       قد يتحدثُ مثلُ ابنِ المدينةِ، وقد يأتي بجملةٍ أو كلمةٍ تنسلُّ من فمِه دونَ شعورٍ منه؛ ليكشفَ أنه ابنُ الباديةِ والصحراءِ (الغريبُ)، قد يملأه الفخرُ وقد يستحيي وينكفئُ على نفسِه، أو ربما يقومُ بشرحِ ما جرى على لسانِه لمَنْ هم حولَه؛ ليقشعَ جوَّ الغرابةِ الذي ملأَ المكانَ بكلمتِه أو لهجتِه تلك!

       هذا العالمُ الفسيحُ الذي يصبحُ صغيرا أكثرَ ومرعبا أكثرَ؛ لأنّ مثالَ الباديةِ والمدينةِ ينطبقُ على العالمِ أيضاً، فبينَما أنت تقرأُ هذهِ الكلماتِ فهناك شخصٌ آخرُ أيضاً في طرفِ الكرةِ الأرضيةِ: كالصينِ، أوأسبانيا، أو روسيا، أوكولومبيا، أو أوقيانوسيا، مطرقا هو الآخرُ رأسَه للأسفلِ، ويحملُ بينَ يديه محمولا يتصفَّحُ منه، يلبسُ مثلَما تلبسُ، و يفكرُ مثلَما تفكرُ وتشتهي وتطمحُ إليه في يومٍ ما...هذهِ الساحةُ الكبيرةُ التي في كلِّ لحظةٍ من لحظاتِها مع تقدُّمِها التكنولوجيِّ، تجعلُ حياتَنا أسهلَ و أسرعَ وأكثرَ راحةً من ذي قبلٍ، هي نفسُها التي تجعلُنا أكثرَ حَنقا، وبُغضا، وعدمَ اكتفاءٍ، شهوةٌ تريدُ أن تجمعَ كلَّ ما يقعُ أمامَها من مالٍ و منصبٍ وشهرةٍ دونَ مشاركةِ الآخرينَ مطلقا!

     العالمُ برمَّتِهِ صُمِّمَ لأنْ تستهلكَ أكثرَ، وكلما قمتَ باستهلاكِك، أصبحتَ أكثرَ عبوديةً للأشياءِ و أكثرَ تعلقا بها، غريبٌ جدا أن تشتريَ عبوديتَك طوعا منكَ، ودونَ إكراهٍ مسبقٍ.

     سبقَ أن قرأتُ بأنَّ حالَ تخلِّيك عنِ الأشياءِ فأنتَ بذلكَ تشتري حريتَك؛  لتصبحَ المعادلةُ ( التخلي = الحريةُ بطريقةٍ ما)!

      كيفَ لا تُستعبدُ وعروضُ الموضةِ لاتتوقفُ بل مستمرةٌ كلَِّ أسبوعٍ، والعديدُ من المناسباتِ تظهرُ على السطحِ، ملياراتُ الإعلاناتِ تحثُّك على أن تحتفلَ (بيومِ العاملِ، والأمِ، والإطفائيِّ، وساعي البريدِ ...إلخ ) فلا يكادُ يمرُّ أسبوعٌ دونَ أنْ ترى مناسبةً تذكرُك بأن تحتفلَ، وأنْ تشتريَ أكثرَ وأكثرَ من ملبسٍ ، ومشربٍ ، ومأكلٍ... 

       العالمُ الصغيرُ في رقعتِه اليومَ لا يجعلُنا قريبين من بعضنِا، بل أكثرَ بُعدا، وتشتتا، وحَنَقا، وربما أكثرَ كُرها لبعضنا بعضا! 

      عدمُ تكافؤِ الفرصِ، وزيادةُ أعدادِ التنافسِ، وكثرةُ المتشابهين، تصنعُ الضغينةَ والفرقةَ، وقدْ تشعلُ نيرانَ العنصريةِ والإقصاءِ لبقاءِ فئةٍ دونَ الأخرى!

      تعيشُ لأنَّكَ تريدُ أن تكونَ أكثرَ وئاما، غيرَ أنك تصطدمُ بجدرانِ الوحدةِ وعدمِ الاكتراثِ سوى بنفسِك فقط، دونَ الالتفاتِ ولو للمحةٍ واحدةٍ لمن هم جوارُك؛ لكونِهم منافسين لكَ لا أعوانَ مطلقا!

      القصةُ لا تنتهي أبدا، وقد تكونُ مع مرورِ كلِّ يومٍ فيها أكثرَ قتامةً وسوداويةً مما هي عليه؛ لكونِك معبودا للاستهلاكِ، والتنافسيةِ، ولكونِك ستبقى لوحدِك عنوةً منكَ وعدمَ اختيارٍ أكثرَ و أكثرَ و أكثرَ! 

       لنأخذْ توفرَ الغذاءِ بأنواعِه كمثالٍ، هي العلاقةُ الطرديةُ الأكيدةُ للسِّمنةِ، فمَنْ كانَ يتخيلُ في يومٍ من الأيامِ بأنَّ ما تراه كإعلانٍ يمرُّ أمامَك سيكونُ على طاولةِ طعامِك في أقلِّ من عشرين (٢٠) دقيقةً، والكثيرُ من التطبيقاتِ ستعرضُ خدماتِها لكَ؛ لأن تصلَ في وقتٍ أقلَ و بسعرٍ أدنى، و بحرارةٍ أكثرَ، وبجودةٍ أعلى!

       ولنعرِّجْ قليلا على شراءِ المنتجاتِ غيرِ المحسوسةِ في المنصَّاتِ الإلكترونيةِ التي تجعلُ ما هو علامةٌ تجاريةٌ (براند) متاحا بينَ يديكَ محليا أو عالميا، فقد ترى منتجا معينا بسعرٍ لا يصدقُ، فتسعى لأن تقتنيَه بسرعةٍ قصوى؛ لأن الإعلانَ يقولُ: "الكميةُ محدودةٌ؛ فسارعْ بالشراء"! 

       كلُّ ما تبحثُ عنه، وتهتمُّ به، ويشغلُ خَلَدَك مخترَقُ الخصوصيةِ؛ فالبياناتُ التي مع كلِّ تطبيقٍ ترغبُ بالتسجيلِ فيه طالبا إياك الموافقةَ على السياسةِ و الأحكامِ- هذه البياناتُ هي ما يحُكِمُ زِمامَه عليك بالكليةِ؛ فتضغطُ الزِّرَ لاعنا بطءَ التحميلِ وغباءَ الاشتراطاتِ، وما إن تحصلْ على ما تريدُه، حتى تتعقبَك بياناتُك تلكَ جاعلةً منكَ حلقةً متكررةً تقومُ بالاستهلاكِ المرةَ تلوَ الأخرى دونَ وعيٍ منكَ ألبتةَ، ألم تتساءلْ عن تشابهِ ما تحبُه دوما على منصاتِ (يوتيوب، و انستقرام، وسناب تشات، وتويتر، ومنصات قوقل)؟!

       هي سلسلةُ العبوديةِ التي اخترناها طوعا منا، بإذعانٍ مخيفٍ، نظنُ بأنَّ اختياراتِنا عقلانيةً وذاتَ منطقٍ، ولكنْ مَنْ يقودُ كلَّ ذلكَ يدركُ كيفَ أننا كالقطيعِ المطيعِ (الأعمى) دوما لأوامرِ راعيهِ الوحشِ المخيفِ، الذي ينظرُ إلينا شَزَرا دونَ أن يصرخَ فينا أو يعاتبَ.... فقط شاشةٌ، وإعلانٌ، ومحمولٌ!

       كيفَ ستكونُ حياتُنا المقبلةُ، ماذا عن العشرينَ أو الثلاثينَ سنةً المقبلةَ، كيفَ ستكونُ حياةُ الأولادِ والأحفادِ، ماذا عن البيئةِ التي سيعيشون فيها، ما هي فرصُ حبِّهم للحياةِ وتطلُّعِهم إياها، هل سيعيشون في بيئةٍ دونَ حروبٍ ودونَ مكرٍ ودونَ عبوديةٍ، هل ستكونُ حياتُهم أكثرَ حبا وودا، هل سيتذكرون ما كنا نعيشُ فيه متندرينَ علينا وضاحكين، هل سيقومون هم الآخرون بالحسدِ واللعنِ على ما اقترفتْه أيدينا تجاهَهم؟!

     أسئلةٌ شائكةٌ في عصرٍ لا يجعلُك تتفكرُ و تتساءَلُ عن الغدِ القريبِ، اليومُ يمرُّ بروتينٍ لا يدهشُك ولا يستحثُّك على التفكيرِ والإبداعِ والخروجِ عن المألوفِ، فتتساءلُ: كيفَ هو غدا، وما مقدارُ عبوديتِك للأشياءِ...فقط تذكَّرِ المعادلةَ (التخلِّي = الحرية)!!!


للمتابعة تويتر: 

https://twitter.com/abdulaziz_hsnr_?s=21



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا كل شخص منا عليه أن يتعلم (علم البيانات) ليحظى بوظيفة مضمونة في المستقبل!

إهتمام مشترك !

تقرير السفر والدليل الكامل لدولة تايلاند مايو 2022

كتب السيرة الذاتية الرياضية … حكايات في عشق الساحرة المستديرة

أخطائي الثلاث مع الصيام المتقطع؟ وعن كيفية حلها!

كيفَ تعيشُ لعمرٍ أطولَ؟ تسعةُ أسبابٍ غيرِ متوقعةٍ تكشفُ لكَ المجهولَ!