مقتطفات من كتاب (الأيام) لـعميد الأدب العربي طه حسين
حينما استشرت أمين المكتبة عن أفضل كتاب لـطه حسين أشار دون تردد نحو كتاب (الأيام) والذي يقع في أحد زوايا المكتبة المُكْتظَّة بالكتب. دومًا ما تعجبني كتب السِّيَر الذاتية، لكونها تحكي الواقع دون إفراطٍ في التفاؤل المُزَيَّف، ولا البقاء في زاوية السَّخط والشكاية، وعلى غير العادة كان كتاب الأيام لعميد الأدب العربي (ذي نصف السيرة) صورةً عن إبداع كامل، وعظمة أخَّاذة، على الرغم أنه لم يحكِ كلَّ قصته منذ عاش حتى آخر أيامه.
الفتى الذي أقام في الريف المصري وهو الذي يحلم دومًا في تجاوز مزرعة قصب السكر نحو الضفة الثانية راغبًا في كشف ما وراء المجهول من النهر، يلتمع اسمه ويكون من صفوة القوم وعِلْيَتهم من العلماء، والساسة، ورجال الدين معًا لاحقا في حياته.
“طه حسين” الذي نشأ في بيئةٍ تَتَّسم بالعَوَز و الجهل، والتي أَرْدَتْه أعمى بفعل الرمد الذي لم يجد له علاجًا سوى الذهاب لعطار ذهب ببصره وهو ممسك بيد أمه التي تريد نجدته من عِلَّته تلك، لتأسى على حال ابنها مما فعله صنيع العطار الذي وثقت به، فطار بعيني فلذة كبدها.
يسرح بك طه في أيام الريف، و هو الفرد السابع من بين ثلاثة عشر فردًا، والذي يأمره أبوه (الشيخ) ويُلِحّ عليه في أن يكون قارئًا للقرآن حافظًا له، وقد أتمّ ذلك في تسع سنوات، ولكن لا يلبث بعد أن احتفلت العائلة به ونصَّبته شيخًا عليها في سن صغيرة أن نساه، وليكون من كان مسئولا عن تعليمه وتحفيظه أول من صفعه على وجهه من ذوي العمائم قبل أن يتم حلمه في ذهابه دارسًا في (الأزهر) لكونه لم يُؤدِّ واجبه معه ولم يتم أمانته الكاملة في رعاية الطفل بعد أن ظن الغِرُّ الصغير إتمام حفظه للمصحف، واستحقاقه لقب (المشيخة) آنذاك.
هذا الفتى الذي لم يُؤْبَه له كثيرًا لم يتوقع أبواه أن يتفوق على أقرانه أبدًا، أو أن يكون الحظ من اسمه نصيبًا له، يحاول جاهدًا في خطف أنظار أبويه نحوه، واستدرار عطفهم، ولأنهم يتجاهلونه المرة تلو الأخرى ينكفئ على نفسه، نائمًا على حصيرٍ يسامره الليل، ويكتفي منه أول النهار، يقلّب أمره كيف له في أن يخطف الأنظار ويسلب الألباب نحوه.
ولأن سَرْد القصص كانت أغلبها شقاءً وإزعاجًا، كان موت أخيه الذي هيَّأ نفسه للذهاب للقاهرة دارِسَا للطب أسوأ الأثر بعد موت أخته، فهو النابغة الذي وضعت العائلة آمالها عليه في رفعة شأنها وحظها عن باقي أُسَر الريف المجاورة، غير أن الكوليرا تأبى ذلك لتقتلع زهرتهم قبل أن تنشر عطرها، وليكون أكثر المتألمين بذلك “طه” وأمه مُوَلْوِلين ومُنْتَحِبين شطرًا من الزمن.
يذهب الطفل للأزهر بمباركة الأب والأخ، ويبدأ حياته في حلقات الأزهر، ولأن الطفل لا ينسى كل شارِدة ووارِدة تمرُّ في حياته، كانت ألسنة المشائخ السليطة توجعه وتَقُضّ مَضْجعه حين يدعونه أو يلمحون بعلته ذلك بقولهم يا (أعمى)، ولأن العظمة تولد من رَحِم المعاناة، يستنصر بالدروس، والقراءة، والعلم، حتى يتمكن من هؤلاء المشائخ ويبدأ في مجاراتهم، وهم لا يستسلمون له بسياط الشتم حينًا، وبالضَّرْب أحيانًا أخرى.
ولأن لعنة الفقر تطارده كان السكن الذي يجمعه بأخيه صغيرًا بائسًا، في رَبْع من أَرْباع حيٍّ قديم في القاهرة، وإن كان هناك يوم فرح كانت مناسبته خُبز من الأزهر، وفول يباع على جانب الطريق، مما يؤنس نفسه، وينسيه الحاجة والفقر، أو أن يصبح رَبْعهم الذي يعيشون فيه مقصدًا للزوار من طلاب الأزهر أو الجيران، وإن أصابهم الحظ كانوا يجلبون لهم شيئًا من الأطعمة المختلفة والتي لا تسدّ جوعًا، أو تروي ظمأ.
شيئًا فشيئًا يكبر هذا الفتى، ليبدأ في مقارعة المشائخ، في جوانب الفقه، والشريعة، والأدب، والنحو، ولكن كل ذلك يُمْحَى من قلبه ويَمْقُته بعدما أن اكتفى من الأزهر وعمائمهم، حينما يسمع عن (الجامعة) تلك الحاضنة لأصحاب الطرابيش، تخطف فكرتها قلبه، ويذهب راغبًا في الانتساب إليها، وأول ما لاحظ أنهم لم ينعتوه بسوأة (عماه) كما في الأزهر فكان لهم طالبًا نجيبًا، يثبت نفسه في كل مرة، وتفتن الجامعة به وترعاه، وينجح فيها، لترسله لاحقًا نحو فرنسا للحصول على الدكتوراه.
وما زالت لعنات الفقر تطارده، فعلى الرغم من دعم الجامعة له، كان لا بد من صاحب يصحبه في دروبِ مُدُن فرنسا لكونه أيضا أعمى لا يملك عصاة تتحسس الأرض ليعرفها، وجاهَد أيَّما جهاد، وفُتِنَ أيَّما فتنة بتلك الحضارة المتقدمة، ولأن القصص لا تكتمل كانت الحرب العالمية عائقًا في وَجْهه ليعود سريعًا كيفما ذهب، لا يلبث طويلا في مصر بعد أن وضعت الحرب أوزارها حتى يقفل راجعًا مستكملًا ما بدأه في فرنسا، غير أن هذه المرة كان للحب طريقا في قلبه، ليس بصورة متجسدة لامرأة بل صوت مسموع لمحبوبته (سوزان) والتي رَعَتْه وصارت هي عينيه وجوراحه، تساعده في تحصيل العلم، وتحصيل الأسرة لاحقًا بعد ذلك.
بعدما تعلم الفرنسية واللاتينية بإتقان، ورجوعه من فرنسا بسوزان وابنته (أمينة) تستقبله الثورة في مصر، مشاركًا فيها وداعمًا للفئة الأضعف من الشعب (الفقير) ممن لم تتسنى لهم الحياة بفُرَصها، ولأن حياته كلها صراعٌ فقد كانت كلماته قوية كشخصه، ليسكت هذا ويقرع ذاك، كون سلاحه مربوطًا بسلّ سيف المقالات المقوية لشوكة الثورة يومئذ.
وما يذهلك من كل ذلك هو كتابته لنصف سيرته في تسعة أيام فقط، وكأنه ينافي مقولة أبي العلاء المعري -شخصيته التي فُتِنَ بها طه- بأن (العمى عورة) ولكن دافع قوي بأن الله يأخذ منك شيئًا ليعطيك أشياء، وليس بعد كل سقطة إلا نهوض دائم، لا يلين، ولا يستسلم.
لا أذكر كتابًا تمنيت ألا ينتهي سواه، ولعل أجمل ما في الكتاب هو تقمصك لشخصية طه، عن لا وَعْيٍ منك في النطق بالنص والرغبة في قراءته جهرًا، لكونه أعمى لا يقوم بالكتابة بل في النطق بالنص وإيجاد من يثق به في تفريغ ما يقوله نصًّا مكتوبًا، تشعر بأن الفصحى قد شُرِبت معه كحليب الأُمّ فبقت في جِيناته حتى مماته.
ولعل ما ستتفاجأ منه أنّ كتاب (الأيام) من النصوص التي تدرس وتختبر في مصر، فيكفي بهذا شهادة وتزكية لكتاب لن يخامرك الشك في روعته البتة.
للاشتراك في نشرتنا البريدية:
https://gohodhod.com/@aziznotes/issues/575?preview_token=e512e2a9-7ec7-47b2-955e-13ef39ff7df9
تعليقات
إرسال تعليق