كيفَ تعيشُ لعمرٍ أطولَ؟ تسعةُ أسبابٍ غيرِ متوقعةٍ تكشفُ لكَ المجهولَ!
الإنسانُ ابنُ بيئتِه، فهي تمثِّلُ
فيهِ كيفَ ترعرعَ وكيفَ عاشَ. وأعتقدُ بأنَّ أكثر ما يبرزُ في محيطي الذي فيه
كَبُرْتُ هو الاهتمامُ بالضيفِ أو (بالآخرِ)، بذلكَ الإنسانِ الذي يأتي نحوَكَ؛
لتقومَ له بكلِّ شيءٍ؛ حتى لا يشعرَ بالحياءِ والنَصَبِ، أو (الإعياءِ من وعثاءِ
السفرِ)، وهو اليومُ مقامَ (الضيفِ) ذلكَ الشخصِ المقدسِ الذي لو أرادَ المنَّ
والسلْوى من مُضيِّفه، لهبطتْ
عليه بمجردِ أنه اختارَ واشتهى.
وكيفَ لا نستشهدُ هنا بأيقونةِ الكرمِ العربيِّ (حاتمٍ الطائيِّ) الذي قالَ
في الضيفِ:
أُضَــــــــــاحِكُ
ضَــــــــــــــيْفِي قَبْلَ إِنْزَالِ رَحْلِهِ وَيَخْصَبُ عِنْدِي وَالْمَحَلُّ
جَدِيبُ
وَمَا الْخَصْبُ
لِلْأَضْيَافِ أنْ يكثرَ الْقِرَى وَلَكِنَّمَا وَجْــــــهُ الْكَرِيمِ خَصِــــــــــيبُ
بل أبعدَ من ذلكَ، فقد
ْقرنَ اللهُ محبتَه بمحبةِ الضيفِ؛ فعن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه-قالَ: قالَ رسولُ
اللهِ ﷺ:"مَنْ كانَ
يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، فليقلْ خيرًا أو ليصْمُتْ، ومَنْ كانَ يؤمنُ باللهِ
واليومِ الآخرِ، فليُكْرِمْ جارَه، ومَنْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ،
فليكرمْ ضَيْفَه".
قبلَ أن أحظى بالوظيفةِ،
كنتُ أكثرَ مقاومةً وصدودا في تقبِّلِ حضورِ هذهِ المناسباتِ الخاصةِ منها والعامةِ،
فكنتُ أستثقلُ ركوبَ السيارةِ، ومقابلةَ الأشخاصِ، والالتزامَ معهم بزمانٍ ومكانٍ
ما، كنتُ أعتقدُ بأنها تُهدرُ من طاقتي وتركيزي الكثيرَ، تتوارد إلى ذهني أفكارٌ بأنّ
كلَّ ما يحدثُ ليسَ إلا نفاقًا اجتماعيًّا أسعى إلى الخلاصِ منه في أسرعِ وقتٍ والرجوعِ
العاجلِ نحوَ ما أحبُّ؛ لأركلَ الكرةَ، أو لألعبَ بما يقعُ تحتَ يدي، أو لأشاهدَ
ما يملؤني بهجةً وسعادةً بدلًا من تلكَ التجمعاتِ التي لا طاقةَ لي بتحمُّلِها ألبتةَ.
لم أكنْ أعلمُ بأنَّي مُتشرِّبٌ تلك الصفةَ
بالكليةِ، ألا وهي حبُّ الآخرِ والانفتاحُ نحوَه إلا حينَما هاجرتُ حاملًا معي
أحلامي وآمالي نحوَ ذلكَ المستقبلِ البعيدِ، فخالطتُ العجمَ والعربَ وممن يحملون
نفسَ الجنسيةِ، كنتُ ولا زلتُ أعاملُهم بكيفيةِ ما تربيتُ عليه منذُ نعومةِ
أظفاري، الكثيرُ من المواقفِ كنتُ أقفُ أمامَها مندهشًا؛ فمثلًا في وظيفتي الأولى
كنتُ أقفُ متسائلًا: لماذا لا نجتمعُ حولَ صَحْنِ طعامٍ واحدٍ عندَ حلولِ موعدِ إحدى
الوجباتِ الرئيسةِ؟ لماذا يختلي كلُ واحدٍ منا في زاويةٍ ما؛ كي ينالَ من وجبتِه
ما يكفيه، بل ويرمي بزائده نحوَ القمامةِ؟
أتذكر جيدًا حينما قمتُ بالدفعِ في المرةِ
الأولى من صندوقِ حسابي المتعلقِ بالعملِ لم أجرؤ أن أتسلَّمَ مبلغًا واحدًا من
أحدِهم حياءً، وقد كنتُ أصرُّ إصرارًا كبيرًا على عدمِ أخذِ أيِّ شيءٍ منهم، لا
زلتُ أتذكرُ الوجومَ الذي أصابَ وجوهَهم وكأنَّ الذي حدثَ شاذًّا وغيرَ معتادٍ، بل
أتذكرُ عدمَ قدرتِهم على الردِّ بطريقةٍ مناسبةٍ.
فقط لأنَّي كنتُ أعاملُهم بعفويتي المتجذِّرةِ،
فكانَ كرمًا يسيرا لا يزنُ مثقالَ ذرةٍ عمّن قدمتُ من أرضِهم.
مع مرورِ الأيامِ صِرتُ لا أكترثُ كثيرًا،
بل تجرأْتُ بأن أطلبَ المبلغَ المقصوصَ من حسابي غيرَ عابئٍ بتلكَ الإكراميةِ التي
كنتُ أقدمُها في أولِ مرةٍ، أن تأخذَ حسابَك يعني نظامُ (أمريكان) كما يقولون.
هذا التصادمُ الفكريُّ مع مختلفِ الثقافاتِ
أخبرني بأنَّ العوزَ الشديدَ من هؤلاءِ البشرِ للمالِ هو شغلُهم الشاغلُ، ولستُ
أتكلمُ عن زملائي الموظفين فحسبُ، بل عن منظومةٍ كاملةٍ تحاسبُك منذُ تعريفِ بصمتِك،
ومراقبةِ أدائك الماليِّ، ويزيدُ على كلِّ ذلكَ محاسبتُك ومراقبتُك عبرَ (الكاميرات)
للسكناتِ والحركاتِ، ومن غيرِ الطبيعيِّ ألا أتأثرَ بكلِّ تلكَ المنظومةِ المتأصلةِ
بجمعِ المالِ سلبًا.
ورغمَ ذلكَ تبقى تلكَ العادةُ المتأصلةُ
تعودُ من جديدٍ؛ لتظهرَ في المناسباتِ والأعيادِ، بمجردِ جلبِ هديةٍ أو ابتسامةٍ
أو حتى سؤالٍ عن حالٍ يُشبعُ لديَّ هذهِ الخصلةِ الدفينةِ التي لم ولنْ تموتَ.
أصبحتُ أكثرَ تقديرًا لها ولمعناها، فبعدَما
كنتُ لا ألقي لها بالًا خلال النشأةِ والصبا، صِرتُ أشدَّ امتنانًا لها وعرفانا
بها، بل إن هذا قد انعكسَ عليَّ بالضرورةِ؛ كي أصبحَ أكثر إحساسا بالأشخاصِ ممن هم
حولي، وذلك بكثيرِ زياراتِهم وتفقُّدِ أحوالِهم وشؤونِهم العامةِ والخاصةِ.
محطتي
التاليةُ كانتْ أقلَّ عزلة وأكثرَ اجتماعيةً؛ لتمثَّلَ بعضا من بيئتي ونشأتي، وهذا
غيرُ مستغربٍ؛ فهي في القطاعِ الحكومي بعدَ انتقالي من القطاعِ الخاصِ؛ ولكنَّ
المختلفُ قليلا هو تلكَ العاداتُ المتنوعةُ في اللهجةِ وتقديرِ الناسِ وإكرامِ
الضيفِ، فتتعلمُ من جميعِ الفئاتِ كافةً أهواءَهم ومشاربَهم.
لأنَّ لديَّ تجربةً سابقةً لم تواجهْني تلكَ
الصدماتُ التي كانتْ تأتيني في وظيفتِي الأولى، بل أصبحتُ أقلَّ حدةً وتأثيرًا،
تعلمتُ كيفيةَ تقديرِ المواقفِ والأشخاصِ، ومعرفةِ أهميتِهم في الحياةِ، بل كثيرا
ما كنتُ أراجعُ نفسي بعدَ كلِّ اجتماعٍ معَ أيِّ أشخاصٍ في إطارِ العملِ أو خارجِه:
كيفَ سأتعلمُ منهم، ماذا لو لم أجتمعْ بهم، كيفَ بإمكاني اقتناصُ الفرصِ، والأفكارِ،
والطموحاتِ، والعلاقاتِ بعدَ لقائي معهم؟!
كلُ ذلكَ لمجردٍ أنكَ
تحدثتَ معَ خلفيةٍ وتجربةٍ مختلفةٍ وثريةٍ تمنحُك المزيد، وتجعلُك أكثرَ نضجًا وأوسعَ
خبرةً.
في إحدى محاضراتِ (تيد إكس) (1) قامتْ الباحثةُ في علمِ النفسِ (سوزان بينكير) في طرحِ تساؤلٍ عن
علاقةِ الحياةِ الطويلةِ بالحياةِ الاجتماعيةِ. (سوزان) بحثتْ في جزيرةِ (سردينيا)
الإيطاليةِ التي تقعُ في المنطقةِ الزرقاءِ شمالَ البحرِ المتوسطِ التي تشيرُ فيها
الأرقامُ إلى طولِ أعمارِ أفرادِها التي قد تصلُ لما بعدَ المائةِ سنةٍ، وقد أكَّدتْ
بأنَّ هناك علاقةً متأصلةً بينَ التصميمِ العمرانيِّ لهذهِ القرى الواقعةِ هناكَ وبينَ
طولِ عمرِ أفرادِها؛ فهي المتداخلةُ فيما بينَها، التي تجبرُ سكانَها على الاختلاطِ
مع بعضِهم بعضا (الجيرانَ، والعمالَ، والأطفالَ، وعابري الطرقِ… إلخ).
العاملُ الجينيُّ لطولِ عمرِ أفرادِ سكانِ
جزيرةِ (سردينيا) لا يمثِّلُ سوى (٢٥٪) أمَّا
عن(٧٥٪)، فهي تعوّدٌ على أسلوبِ الحياةِ في تلكَ
الجزيرةِ بكثرةِ العلاقاتِ بينَ أفرادِ سكانِها وذوبانِهم فيما بينَهم.
(جوليان هولت) هي الأخرى الباحثةُ في جامعةِ
(بيرمنغهام)، بعدَ أن أعدَّت دراسةً لمدةِ سبعِ سنواتٍ شملتْ عشرةَ آلافِ مشاركٍ، وبعدَ
معرفةِ ورصدِ الجوانبِ الأساسيةِ للحياةِ من (الرياضةِ، والغذاءِ، والتدخينِ،
وتعاطي الكحولِ، والحالةِ الزوجيةِ) كانَ التساؤلُ هو: ما أكبرُ مسببٍ لحياةٍ
طويلةِ الأمدِ؟
وكانتْ النتيجةُ على النحوِ التالي من الأدنى حتى الأعلى:
٩- التعرضُ للهواءِ النقي.
٨- الالتزامُ بعلاجاتِ ارتفاعِ ضغطِ الدَّمِ.
٧- ضبطُ الوزنِ المثالي.
٦- التأهيلُ من أمراضِ القلبِ والسيطرةِ عليها.
٥- أخذُ لقاحِ الانفلونزا الموسميةِ.
٤- توقفُ تعاطي الكحولِ.
٣- الإقلاعُ عن التدخينِ.
٢- العلاقاتُ القريبةُ (ويُقصدُ بها الصداقةُ الخاصةُ جدًّا(.
١- العلاقاتُ التكامليةُ (ويُقصدُ بها الانفتاحُ على جميعِ الناسِ
بكلِّ الأصعدة).
(سوزان بينكير) تؤكدُ من جديدٍ على أهميةِ
العلاقاتِ الحميميةِ، والصداقاتِ القريبةِ التي تكونُ مباشرةً، وهي عبارةٌ عن
تواصلٍ يحكي لغةَ العيونِ والجسدِ، كيفَ أنَّ تأثيرَها مهمٌ للجهاز العصبيِّ ولعملِ
الهرموناتِ؛ فمع هذهِ العلاقاتِ يكونُ تدفقُ هرمونِ (الأكسيتوسين) المسؤولِ عن
الثقةِ في أعلى مراحلِه، جنبًا إلى جنبٍ معَ هرمونِ (الدوبامين) الذي يشعرُك
بالانتعاشِ، ويخففُ حالاتِ الألمِ الحادِ، معَ خفضٍ شديدٍ لهرمونِ (الكورتيزول)
المسؤولِ عن التوترِ في الجسمِ، وبالتالي حياةٌ كفيلةٌ لك بأنْ تعيشَ فيها أمدًا
بعيدًا.
ومعنى يُنْسأ له في أثره، أي: إطالة عمره.
حينَما تحملُ معكَ حقائبَك تاركًا موطنَك
وراءَ ظهرِك، تذكَّر بأنَكَ تحملُ إرثًا يمثلُك أنت أولًا، لايمكنُك أن تتخلّى عنه
أو أنْ تنفّكَ؛ فسيظهرُ رغمًا عنكَ ودونَ أن تشعرَ، فقط عليكَ أن تكونَ عفويا،
وألّا تتملّصَ من حقيقتِك النقيةِ غيرِ المزيفةِ.
اليومَ في هذه الحياةِ
التي تسيطرُ علينا وتقودُنا لأنْ نكونَ أكثرَ وحدةً وانعزالًا، لن تقودَنا إلا نحوَ
سرابٍ غيرِ محمودةٍ عاقبتُه، لنكنْ أكثرَ انسجامًا مع الآخرِ، وأكثرَ انفتاحًا
عليه وعلى أفكارِه، ومتقبلين أكثرَ لعاداتِه وبيئتِه ومن أين
أتى، وألا نكفَّ متسائلين عن كيفَ لنا أن ننموَ جميعا، ويرفعَ كلٌ منا الآخرَ
للأعلى ؛ لنعيشَ أكثرَ مودةً، وقربًا، ورحمة!
للاستماع لثالث حلقات بودكاست خواطر مفكرة: 🎙
🎧
ساوند كلاود
ابل بودكاست
للاشتراك في نشرتنا البريدية:
https://gohodhod.com/@aziznotes/issues/575?preview_token=e512e2a9-7ec7-47b2-955e-13ef39ff7df9
مراجع :
محاضرة "TedX" لسوزان بينكير:
https://www.youtube.com/watch?v=ptIecdCZ3dg
إليك أيضًا :
تدوينة جيدة جدا، فيها دروس وعبر قيّمة
ردحذفشكرا جزيلا لوقتك الذي استقطعته لقراءة هذه التدوينة 🙏🏼
حذف