الأسباب التي تمنعك من مقارنة نفسك مع الآخرين

 منذ نعومة أظفارنا، يقوم كلا من الافراد والمحيط بوضعنا في سلة المقارنات، التي تضرنا وتلحق بنا الأذى، ومن خلالها تتشكل شخصيتنا وهويتنا!



       ما زالتْ تلكَ الفكرةُ التي أوردَها الكاتبُ (آلان دو بوتون) في كتابِه (قلقِ السعي إلى المكانةِ)، والذي تحدَّثَ من خلالِه عن كيفَ أنَّ الأقرانَ يحسدُ بعضَهم بعضًا- ما زالتْ عالقةً في ذهني؛ ذلكَ لكي أكونَ أكثرَ تساهلًا ومحبةً مع ذاتي الخاصةِ حالَ المقارنةِ معَ أحدٍ ما، ولكبحِ جماحِ تلكَ المشاعرِ التي تنهشُني وتستهلكُ كلا من طاقتي وتركيزي حالَ المحاولةِ العبثيةِ في تلكَ العمليةِ المقارنِ من خلالِها، فمثلًا مَنْ ترعرعَ معَ صديقٍ أو قريبٍ له في فترةٍ زمنيةٍ معينةٍ هم مَنْ يبدؤون في زراعةِ عمليةِ مقارنةِ أنفسِهم ببعضِهم بعضا، وقد يُغذِّي ذلكَ أحدُ أفرادِ العائلةِ أو المقربين، في حينِ لو كانَ هناك فارقٌ زمنيٌّ أو تراتبيٌّ كبيرٌ لا يأتي ذكرُ شخصٍ معَ الآخرِ، فكيفَ يحسدُ مَنْ رتبتُه العسكريةُ عريفٌ ذلكَ الذي تبوأَ منصبَ لواءٍ مثلاً؟!

        أمَّا مقارنةُ الأفرادِ بالمشاهيرِ، ففي وسائلِ التواصلِ التي تُظهرُ من خلفِها مشهورًا صارَ يعلنُ لمنتجٍ معينٍ، وتسريبِ أرقامِ مبالغِ تلكَ الإعلاناتِ لأولئكَ المشاهيرِ لاحقًا، مَنْ يستقلُّ طائرةً ما في كرسيِّ رجالِ الأعمالِ، ويبدأُ في التجولِ نحوَ تلكَ المدينةِ المكتظةِ بالسُّياحِ، ويعلنُ من شاشةِ جوالِه لمتابعيه بأنَّ كلَّ دقائقِه وساعاتِه تنفجرُ بالبهجةِ والسرورِ، والتي بالتالي ستؤثرُ فيكَ أنتَ المتابعُ سواءً كنتَ مهتمًا بتلكَ الجولةِ أو ذلكَ الإعلانِ الذي تحسبُ مدخولاتِه منذُ تسريبِ قائمةِ أسعارِ إعلاناتِهم؛ لتندبَ حظِّك، ولتتساءلَ ما الذي ينقصُني عنه؟ أينبغي أن أكونَ مجنونًا وأكثرَ استعمالًا لبرنامجِ (سناب تشات أو إنستقرام) لهدفٍ أو غيرِ هدفٍ؛ لأراقبَ عدادَ أرقامِ المتابعين الذين أضيفوا لحساباتي.

        حتى وإن لم تخترْ أن تكونَ أحدَ المعجبين، سوفَ يظهرُ لكَ بينَ الفينةِ والأخرى إما على (الإكسبلور) كأكثرِ ما تمتْ مشاهدتُه خلالَ ذلكَ الوقتِ، أو في أن يشاركَه أحدُ أصدقائك الذي ربَّما يريكَ ما شاهدَه للتوِّ، أو في أن يرسلَه لكَ؛ كي تبدأَ في تلكَ العمليةِ التي تتكررُ؛ (لتقارنَ) وللأسفِ حتى لو كانَ الفارقُ شاسعًا ما بينَك وبينَ ذلكَ المشهورِ، كأنْ تتشجعَ لتقدَّمَ إجازتَك السنويةِ وتسافرَ لأحدِ تلكَ البلدانِ التي أقامَ فيها، أو تشتريَ ذلكَ المنتجَ الذي سوَّقَ له، فتزيدَ من مدخولِه رقمًا إضافيًّا يحسبُ له.

        أتحدثُ هنا عن صاحبِ المشاهداتِ المليونيةِ أو حتى مَنْ كانَ رفيقًا لكَ تعرفُه، أو زميلًا، أو قريبًا، أو حتى أخًا لكَ يقومُ بالتصويرِ فتحسدُه، فتشعرُ بتلكَ الرغبةِ الشديدةِ في أن تكونَ مكانَه في تلكَ البقعةِ السعيدةِ التي منها يوثِّقُ سعادتَه العارمةَ بكلِّ تفاصيلِها.

      أحدُ أفضلِ العلاجاتِ النفسيةِ والوسائلِ التي تخففُ عنكَ كلَّ تلكَ المقارناتِ، هي أنْ تكونَ أنتَ الذي يُقارَنُ به؛ فلا تراتبيةَ ولا مقارنةَ مع أحدٍ آخرَ، لا يوجدُ هنا منافسٌ غيرُك، وأعني بذلكَ سواكَ فقط، لا تحسدْ أحدًا أنْ تكونَ في موضعِ قدمِه؛ فما أدرَاك عن حياتِه الخاصةِ، وعن مشاكلِه الشخصيةِ أو العائليةِ، أتحدثُ حتى لو كانَ فردًا تعرفُه، كأنْ تكونَ أنتَ وإياهُ في عمرٍ واحدٍ، أو قرابةٍ شديدةٍ، أو زميلِ عملٍ، أو حتى مَنْ كانَ صديقًا لك!

        حينَ تحشدَ كلَّ ما تملكُ؛ لأنْ تكونَ أنتَ المقارنَ الأولَ في كلِّ شيءٍ، فستعودُ لذلكَ التوازنِ الداخليِّ، والذي سيدلُّك على ما تحبُ، كأنْ تتطورَ يومًا بعدَ الآخرِ، ولكي تكونَ نسخةً أفضلَ في غدِك القادمِ، أن تزيدَ ما مقدارُه خطوةٌ، أو لبنةٌ، أو مثقالُ شعرةٍ، تنظرُ لنفسِك قبلَ سنةٍ أو شهرٍ أو حتى بالأمسِ القريبِ، في أنْ تدركَ بأنَّ أيامَك الكثيرةَ قد زُرعتْ بالكثيرِ من الأشجارِ والورودِ دونَ أن تعيَ، وكانَ ما يرعاها تعبُك الشخصيُّ المضني، والذي سُقيَ بعرقِ الجبينِ، لأنْ تصلَ وأنتَ تدركُ ذاتَك، عن ذلكَ الذي كانَ طفلًا صغيرًا، وأصبحَ لاحقًا رجلًا يُعتدُّ به؛ لتتملكَه الحكمةُ ويكونَ في عباءةِ الذين أوتوا خيرا كثيرا، قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) البقرة: 269.

          نحوَ تلكَ الطمأنينةِ الشديدةِ، والإيمانِ الكبيرِ، والثقةِ المكتسبةِ، كأنْ تغلقَ عينَك وتدركَ بأنَّك كتلك الطيرِ التي تغدو خماصًا وتعودُ بطانًا بعدَ توكُّلِها على اللهِ حقَّ التوكلِ؛ فعن عُمرَ بنِ الخطَّابِ -رضيَ اللَّهُ عنه- أنَّ رسُولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- قالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَاناً».

        ومعنى: تَغْدُوْ خِمَاصًا، أي: تذهبُ أولَ النَّهارِ خاليةً بطونُها من شدَّةِ الجوعِ.

وتَرُوْحُ بِطَانًا، أي: تعودُ آخرَ النَّهارِ ممتلِئةً بطونُهَا؛ لأنها قد شبعتْ.

         ولكنْ لنعدْ للحقيقةِ في ذاتِنا، قد يكونُ كلُّ ما سبقَ تطمينًا شديدًا يبعدُنا عن المحاولةِ البائسة في عملياتِ المقارنةِ، ووضعَ كمّادةٍ على موضعِ الجرح ليشفى، والذي كانَ مرافقًا لكَ ربَّما منذُ صباكَ حتى تكبرَ؛ ولكنْ يمكنُك أنْ تطمحَ لأنْ تكونَ في وضعٍ أفضلَ، ومكانٍ أفضلَ، ذلكَ حينَ رؤيتِك لأحدٍ تبوأَ مراتبَ النجاحِ، واستطاعَ الوصولَ لما وصلَ إليهِ، ولما تريدُ أنتَ بشدةٍ أنْ تكونَه في يومٍ من الأيامِ؛ فيكونَ محفِّزا شديدًا لك؛ كي تصلَ نحوَه، كلُّ هذهِ المقارناتِ هي غريزةٌ بشريةٌ طبيعيةٌ؛ ولكنَّ طبيعةَ تعاملِك معها تحتاجُ لكثيرٍ من الحكمةِ ولأنْ تتعاطى معها بإيجابيةٍ أكبرَ، دونَ أنْ تعودَ في حلقةٍ مفرغةٍ من سيلِ المقارناتِ التي لا جدوى منها.

          في كتابٍ آخرَ للدكتورِ مصطفى محمودٍ، بعنوان: (من أسرارِ القرآنِ الكريمِ) يتطرقُ في فصلِها الأولِ إلى فكرةِ (الأضدادِ)؛ في كونِها سنةً كونيةً منذُ بَدءِ الخليقةِ بهبوطِ آدمَ وحواءَ من الجنةِ، قالَ تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ) [البقرة:٣٦] وآيةٌ أخرى تبينُ لكَ أنَّ من صلاحِ الأرضِ وعدمِ هيمنةِ قوةٍ دونَ الأخرى في الكونِ، هو وجودُ قوًى مختلفةٍ تتصارعُ فيما بينَها وتنشغلُ مع بعضِها بعضا؛ ليعيشَ آخرون ضعفاءُ اتخذوا صوامعَهم ومعابدَهم لذكرِ اللهِ، قالَ تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍۢ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرًا ۗ) [الحج:٤٠]، وقولُه تعالى في آيةٍ أخرى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].

        ها هي أمريكا بقوتِها، والتي تمتلكُ القنبلةَ الهيدروجينيةَ، وتتفاخرُ بقوتِها الرأسماليةِ، وعن ذلكَ الحلمِ الأمريكيِّ في الحرياتِ، تقابلُها روسيا ذاتُ الطابعِ الشيوعيِّ، ويتطاحنُ معهم جنبًا إلى جنبٍ الماردُ الصينيُّ؛ ليتصارعَ الجميعُ ويبقى مَنْ هم بعيدون عن هذا الصراعِ متمسكين بأملِ بالبقاءِ والعيشِ بهدوءٍ.

         الأضدادُ خلقَها اللهُ لمعنى عظيمٍ؛ لتتماشى معَ الكونِ في صورةٍ دقيقةٍ تعجيزيةٍ، فهو سبحانَه وتعالى خلقَ القطنَ وخلقَ دودةَ القطنِ، وخلقَ النباتَ، وخلقَ الجرادَ، وخلقَ الأسنانَ وخلقَ تسوسَ الأسنانِ، وخلقَ العينَ وخلقَ الرَّمدَ، وخلقَ الحديدَ وخلقَ صدأَ الحديدِ.

          على الصعيدِ الرياضيِّ، ما الذي يعنيه تواجدُ البرغوثِ الأرجنتينيِّ (ميسي) دونَ وجودِ الدونِ البرتغاليِّ (كرستيانو رونالدو)، كيفَ أنهما الاثنان رفعا سقفَ أرقامِهما العاليةِ بدفعِ أحدِهما الآخرَ نحوَ القمَّةِ، أن يتشاركا جائزةَ أفضلِ لاعبٍ في العالمِ لأكثرَ من خمسَ عشرةَ (١٥ ) سنةً، هذهِ المنافسةُ الإيجابيةُ مَنْ جعلتْهما في القمةِ، حتى وإنْ لم يعترفا بذلكَ شخصيًّا.

         وبالحديثِ عن الفنونِ، كيفَ قدْ تشكلتِ الأغنيةُ السعوديةُ في زمنٍ مضى معَ كلٍّ من (محمدٍ عبده، وطلالٍ مداح)، يشاركُ طلالٌ بأغنيةٍ، فيتحفزُ محمدٌ بأخرى في الساحةِ، وهكذا كانا؛ حتى يصبحَ مَنْ يستمتعُ بأحدِهما أو كليهما موضعَ نقاشٍ؛ وذلكَ بقولِ: "أنتَ طلاليٌّ، ولا من جماعةِ أبو نورة؟" وعليها فقسْ، مثلًا: (روجر فيدرير) معَ (رفاييل نادال)، و(بيل جيتس) معَ (ستيف جوبز)، و(ليبرون جيمس) معَ (كوبي براينت)، و (جيف بيزوس) معَ (مارك زكيربيرق) و(اليون ماسك)، وعلى صعيدِ الشركاتِ، (آبل) و(سامسونغ)، و(كوكاكولا) معَ (بيبيسي)، و(بلايستيشن) معَ (إكس بوكس)، و(جاهز) معَ (هنقرستيشن)، و(الاتصالات السعودية) معَ (موبايلي) و(زين).

         هذا ما أعنيه بالتحفيزِ الإيجابي، أنْ تأخذَ أفضلَ ما في مَنْ أُعجبتَ بهم، أو نافستَهم، وتدركَ بأنَّه يمكنُك القيامُ بذلكَ أنت أيضا، دونَ أن تضرَه، ودونَ أن ترهقَ  نفسَك أنتَ الآخرُ.

         المنافسةُ التي ترفعُ المستوى عاليا، وتطيرُ بكَ نحوَ مراحلَ غيرِ مسبوقةٍ ونادرةٍ، أن تكونَ المنافسةُ إيجابيةً، وليستْ ملحميةً تلحقُ الضررَ بالآخرِ وتؤذيهِ.


للإستماع للحلقة بالصيغة المسموعة 🎙:


ساوند كلاود 🎧


https://cutt.ly/nSwkLFC



آبل بودكاست 🎧


https://cutt.ly/aSwk13F


 

للاشتراك في النشرة البريدية: 

https://gohodhod.com/@aziznotes


للمتابعة حساب تويتر: 

https://twitter.com/abdulaziz_hsnr_?s=21

إليك أيضاً :

خواطر مفكرة: أخطائي الثلاث مع الصيام المتقطع؟ وعن كيفية حلها!

ما هو مفهوم الصيام؟ وكيف تحسب سعرات خسارة الوزن؟ مصادر إضافية للاستزادة عن الموضوع من الخبراء والمصادر التعليمية!
notesaziz.blogspot.com

خواطر مفكرة: كيف تعيش لعمر أطول؟ تسعة أسباب غير متوقعة تكشف لك المجهول!

هل تساءلت من قبل عن سر العمر الطويل؟ نستعرض لك أهم الاسباب لعمر أطول، عن معنى قبول الاخر ومعرفته والتقرب منه! 
notesaziz.blogspot.com

خواطر مفكرة: تجربتي في قراءة الروايات ومشاهدة أفلامها المصورة، أيهما أفضل؟

دائما يكون السؤال أيهما أفضل؟ تعددت تجاربي ما بين المكتوب والمرئي، ومن خلال هذه المقالة طرحت عدة رويات قرأتها وشاهدتها وعن رأيي فيهم! 
notesaziz.blogspot.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا كل شخص منا عليه أن يتعلم (علم البيانات) ليحظى بوظيفة مضمونة في المستقبل!

إهتمام مشترك !

تقرير السفر والدليل الكامل لدولة تايلاند مايو 2022

كتب السيرة الذاتية الرياضية … حكايات في عشق الساحرة المستديرة

أخطائي الثلاث مع الصيام المتقطع؟ وعن كيفية حلها!

كيفَ تعيشُ لعمرٍ أطولَ؟ تسعةُ أسبابٍ غيرِ متوقعةٍ تكشفُ لكَ المجهولَ!